صباح حضرموت
يعتقد الكثير من الخبراء بأن الريادة الأمريكية في طريقها للزوال، لكن الباحث في مركز الدراسات المستقلة، سالفاتوري بابونيس، يُفَنِّد هذا الاعتقاد، في مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي»، ويرى أن القوة الصينية المُتَصَوَّرة في عالم ما بعد كورونا مبالغٌ في تقديرها.
يقول بابونيس، الأستاذ المشارك في جامعة سيدني، في مستهل مقاله: في 18 مارس (آذار)، فَعّل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قانون الإنتاج الدفاعي الذي يعود إلى حقبة الحرب الكورية، وصوّر نفسه بأنه «رئيس زمن الحرب»، الذي يقاتل من أجل «النصر الكامل» ضد «عدو غير مرئي» هو: فيروس كورونا المستجد.
وقبل ذلك بيومين، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الآخر الحرب على فيروس كورونا. وأصبحت الحرب ضد فيروس كورونا حربًا شخصية بالنسبة لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون؛ لأنه هو نفسه أصبح أحد ضحاياه، وقضى بسبب ذلك أسبوعًا في المستشفى.
كذلك صاغ القادة السياسيون في أستراليا والهند وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية، وبالطبع الصين، استجابتهم على هذه الجائحة في كلماتٍ عسكرية خالصة. وفي البرازيل، حاولت الهيئة التشريعية إجبار رئيس البلاد، جاير بولسونارو، على إعلان الحرب ضد إرادته.
ويمضي الكاتب إلى القول إن كل هذا الحديث عن الحرب من المحتم أن يثير تساؤلات حول شكل عالم ما بعد الحرب. ويتفق جميع المحللون الذين استطلعت «فورين بوليسي» آراءهم على أن فيروس كورونا سيحدث تغييرات كبيرة، لكن لديهم آراء متباينة على نطاق واسع حول ما سيغيره. وربما ليس من المستغرب أن كل واحد منهم يعتقد أن العالم بعد الجائحة سيُعاد تشكيله بالطريقة ذاتها التي تنبأوا بها أو حذروا منها قبل الجائحة.
أحداث قيل من قبل إنها تمثل نهاية القيادة الأمريكية
هناك موضوع متكرر في عالم الجغرافيا السياسية المرير (الديستوبيا الجيوسياسية) الناجم عن فيروس كورونا ألا وهو: فشل القيادة الأمريكية المقترن بصعود الصين. وبالنظر إلى أنه قيل لنا إن الحرب في العراق، والأزمة المالية العالمية، وانتخاب ترامب؛ يمثل نهاية القيادة العالمية الأمريكية، يجب وفقًا لذلك أن يكون هناك النزر اليسير من القيادة الأمريكية التي يمكن أن تخسرها.
صحيح أن هناك دائمًا احتمالًا بأن تكون هذه المرة مختلفة، وأن الخبراء على حق في النهاية، ولكن هناك أسباب قوية للاعتقاد بأنها ليست كذلك. فعندما تمضي أمور العالم بسلاسة، يأخذ الأصدقاء الدعم الأمريكي على أنه أمر مُسَلّم به، ويستفيد الأعداء من هذا الرضا عن النفس. ولكن عندما تصبح الأمور صعبة، يعيد العالم اكتشاف مدى أهمية القيادة الأمريكية.
ويري بابونيس أن القيادة العالمية هي واحد من تلك المفاهيم المرسلة التي يصعب تحديدها، وبالتالي يحبها المعلقون الذين يكرهون أن يلزمهم أحد بتقديم آراء دقيقة. وعندما تدخل إلى التفاصيل، تصبح القيادة أكثر واقعية. فالقيادة في مناطق محددة وقضايا بعينها يكون من السهل كثيرًا فهمها وفحصها وتقييمها. وفي النهاية، فإن الأماكن والمشكلات الواقعية فقط هي التي تُحتسب. والقوة العملية في مجالات السياسة الأكثر أهمية في العالم هي التي تشكل القيادة العالمية الخيالية.
البروباجندا الصينية قليلة التأثير
وعندما تنظر إلى خريطة العالم، من السهل أن تنزعج من المكاسب التي حققتها الدعاية الصينية فيما يتعلق بفيروس كورونا. وتغطي هذه المكاسب أماكن بعيدة عن بكين مثل: إثيوبيا (حيث تخطط الصين لبناء مقر جديد للمراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها)، وصربيا (حيث حضر الرئيس ألكسندر فوشيتس إلى مطار بجغراد للترحيب بوصول الإمدادات الصحية الصينية التي منحتها الصين لبلاده)، وفنزويلا (حيث تعتمد متاجر الأغذية الحكومية على الواردات الصينية لتغطية ما يقرب من نصف مخزونها). وعندما تضع هذه المكاسب الدعائية في المنظور الاقتصادي، فإن أهميتها تتراجع وتبدو تافهة. فكل هذه اقتصاديات هامشية الأهمية في منطقتها من العالم.
لنأخذ أفريقيا على سبيل المثال، حيث تعد إثيوبيا وأنجولا هما شركاء الصين الرئيسيان. إن اقتصاداتهما تتضاءل إلى جانب اقتصاد نيجيريا، عملاق أفريقيا الاقتصادي، والشريك الأمني الراسخ للولايات المتحدة. وأثار الاستثمار الصيني رد فعل شعبي عكسي في جنوب أفريقيا، ثاني أكبر اقتصاد في القارة.
صمدت خطوط الصدع الجغرافية السياسية هذه في الاختبارين المزدوجين الذين شكلهما فيروس إيبولا وتمرد بوكو حرام، ولن تتغير نتيجة لفيروس كورونا. قد تختار الصين عددًا قليلًا من البلدان الفقيرة والضعيفة ذات الحكم السيئ لتتحالف معها، لكن الجوائز الكبرى تظل مرتبطة بقوة بالنظام الدولي الأوسع الذي تقوده الولايات المتحدة.
القصة ذاتها تنطبق على أوروبا الشرقية. إذ أثار الترحيب الشعبي الصربي بالصين من أجل الاستثمار والتدريبات العسكرية وحتى التقنيات الشرطية قلق العديد من المراقبين الأوروبيين. ومع ذلك، حتى عندما يتوجه خطاب صربيا السياسي إلى الشرق، فإنها تحتفظ بعلاقات أمنية قوية جدًا مع الغرب.
وصربيا دولة صغيرة نسبيا في أوروبا الشرقية. وحلفاء الناتو، مثل: بولندا، والجمهورية التشيكية، ورومانيا، واليونان، لديها اقتصادات تتراوح من أربعة إلى 10 أضعاف حجم اقتصاد صربيا. ولا يوجد للصين أي حضور سياسي في عملاقي أمريكا اللاتينية: البرازيل، والمكسيك، اللذين يشكلان معًا أكثر من نصف الناتج الاقتصادي للمنطقة.
أي انهيار للاتحاد الأوروبي لن يحابي الصين على أمريكا
في أوروبا الغربية، قد تؤدي المساعدة الطارئة التي تقدمها الصين لإيطاليا في الوقت المناسب إلى تقويض شعبية الاتحاد الأوروبي في ذلك البلد، لكن ذلك يمثل مشكلة بالنسبة للاتحاد الأوروبي أكثر من كونها مشكلة لحلف شمال الأطلسي. حتى ذهب جاك ديلور رئيس المفوضية الأوروبية السابق إلى حد وصف عدم تضامن أوروبا فيما يتعلق بفيروس كورونا بأنه «خطر قاتل للاتحاد الأوروبي».
لكن المشكلات الهيكلية في الاتحاد الأوروبي تتجاوز التدخل الصيني، ولا يوجد سبب للاعتقاد بأن حتى انهيار كارثي للمشروع الأوروبي من شأنه أن يصب في مصلحة الصين على حساب الولايات المتحدة من ناحية الجغرافيا السياسية. وإذا كان لذلك أي تأثير، فمن المرجح أن يجعل عضوية الناتو أكثر أهمية بالنسبة للأعضاء السابقين في الاتحاد الأوروبي الذين أصبحوا مثل الأيتام، وانكشفت عنه المظلة التي كانت تحميهم.
المحيط الهادي الهندي هو منطقة الصراع بين أمريكا والصين
يتابع المقال: عند التحول إلى آسيا، نجد أن المسرح الرئيس للصراع الجغرافي السياسي بين الولايات المتحدة والصين هو منطقة المحيط الهادئ الهندي الأوسع، وهي المنطقة التي تمتد من اليابان إلى الهند، والتي ترتكز على أستراليا في الوسط. من المؤكد أن جائحة فيروس كورونا لم تجعل من الصين صديقة لليابان، أو كوريا الجنوبية، أو تايوان.
في مواجهة القوة الصينية وجهًا لوجه، يعد هؤلاء العمالقة الاقتصاديون في شرق آسيا محصنون عمليًا ضد تأثير بكين. ففي أستراليا شجعت الجائحة الصقور المعادين للصين، مع افتضاح قصص حول شراء الصين كمامات عالية الجودة من صنع أستراليا في يناير (كانون الثاني)، لكنها الآن تصدر كمامات صينية معيبة إلى أستراليا.
صحيح أن مطالبات ترامب العلنية غير الدبلوماسية وغير العادية لعقار هيدروكسي كلوروكوين، الذي لم يثبت نجاحه في علاج فيروس كورونا، أساءت إلى الحساسيات الهندية. لكن الصين ستجد صعوبة في تحقيق أي تقدم في الهند في حين تحتفظ «بصداقتها في جميع الأحوال» مع باكستان.
وعندما تريد الهند أن تنأى بنفسها عن الولايات المتحدة، فإنها تتحول إلى روسيا، وليس الصين. لكن الاقتصاد الروسي في حالة من التدهور الشديد، لذلك فإنه ليس في وضع يسمح له بالاستفادة من أي تعثر في العلاقات الأمريكية – الهندية يتعلق بفيروس كورونا.
دول أوروبا سارت على نهج أمريكا
وقد تؤدي جائحة فيروس كورونا بالفعل إلى دق إسفين أكبر بين الولايات المتحدة وبعض حلفائها الرئيسين، خاصة في أوروبا الغربية. إذ كانت الدول الأوروبية غاضبة حقيقة عندما فرض ترامب قيود السفر على دول منطقة شنجن الست والعشرين في 11 مارس (آذار). غير أنه في غضون أسبوعين، فرضت جميع الدول تقريبًا قيود سفر مماثلة على بعضها البعض.
لا يحب الأوروبيون الطريقة التي وضع بها ترامب «أمريكا أولًا» ردًا على الجائحة، لكنهم يتصرفون بالطريقة نفسها تمامًا. إذ حظرت بعض الدول الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا، لفترة وجيزة تصدير المعدات الطبية الطارئة، حتى داخل السوق المشتركة للاتحاد الأوروبي التي يفترض أنها بلا حدود. لدرجة أن ألمانيا صادرت شحنة كمامات وجه صينية متجهة إلى سويسرا.
إذا كان هناك تأثير جغرافي سياسي طويل الأمد لجائحة فيروس كورونا، فقد يتمثل فيما يلي: قد تكون الدول أكثر تشككًا قليلًا في المواقف العالمية، وأكثر حرصًا على الاعتناء بأنفسها. لكن هذا لا ينبغي أن يكون بالضرورة أمرًا سيئًا بالنسبة للقيادة الأمريكية، بل على العكس تمامًا.
كانت الولايات المتحدة توبخ حلفاء الناتو لسنوات بشأن تحمل المزيد من المسؤولية عن دفاعاتهم. وسيكون الاعتماد الأوروبي الأكبر على الذات نعمة لقوة الولايات المتحدة العالمية، وليس تحديًا لها. فأوروبا الأكثر قومية والأقل تماسكًا ستعزز في الواقع القيادة العالمية الأمريكية، لأن الاتحاد الأوروبي الضعيف من غير المرجح أن يسعى لتطبيق أجندة إستراتيجية منافسة.
يضيف الكاتب: الدول الأوروبية التي تعمل بمفردها، بدلًا عن أن تحميها مظلة الاتحاد الأوروبي، من غير المرجح إلى حد كبير أن تبرم صفقات مع الصين أو روسيا. فبدون الأمن الذي يوفره كونها جزءًا من كتلة قوية، ستكون دول مثل ألمانيا أكثر حذرًا من إبرام صفقات منفصلة مع روسيا بشأن إمدادات الغاز والعلاقات الأخرى. وبالمثل فإن أعضاء الاتحاد الأوروبي في وسط وشرق أوروبا، الذين يستخدمون الآن مبادرة الصين «17+1» كوسيلة ضغط ضد بروكسل، قد يكونون أكثر حذرًا مع بكين ما لم تكن بروكسل هناك لتقدم الدعم.
نجاح أمريكا في شرق آسيا يقوم على تحالف المركز والأطراف
من منظور الولايات المتحدة، فإن الشكل الأكثر فعالية من حيث التكلفة للقيادة العالمية هو الشكل الذي تساعد فيه واشنطن أولئك الذين يساعدون أنفسهم. كان هذا هو سر نجاح الولايات المتحدة في شرق آسيا، حيث يشجع نظام تحالف المركز والأطراف الذي يربط الولايات المتحدة باليابان وكوريا الجنوبية وتايوان بشكل فردي (مع الحد الأدنى من التعاون بين هؤلاء الشركاء) كل واحدة على توفير وسائل دفاعها الخاصة.
ويميل الخبراء السياسيون إلى تفضيل المشاعر الجيدة لالتزام الناتو بموجب المادة الخامسة بالدفاع الجماعي، لكن حلفاء شرق آسيا هم الذين يدعمون بثبات القيادة العالمية الأمريكية. ولا تحتاج الصين إلى تطبيق ذلك.
ويختتم الكاتب مقاله بالقول: «إذا كان فيروس كورونا يعني الحرب حقيقة، فلا يمكن إلا أن يكون ذلك إيجابيًا للقيادة العالمية للولايات المتحدة. ولسوء الحظ اختار ترامب عدم الاستفادة في العلاقات الدولية من هذه الحقيقة. إذ كان بإمكانه تعزيز القيادة الأمريكية من خلال تبني نهج أكثر سخاءً تجاه المناشدات العالمية للدعم والتعاون. لكن مهما يكن فعندما تنتهي الأزمة ستكون الولايات المتحدة أكثر محورية لشبكات القوة العالمية مما كانت عليه من قبل. ستغضب الصين من ذلك، لكن الصين تحتاج إلى نظام دولي حر ومنفتح أكثر من أية دولة أخرى، ولهذا فهي في حاجة إلى القيادة الأمريكية».
ساسه بوست